الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقوله: {أُولئِكَ} إشارة إلى الفريقين. ويجوز أن يكون والذين مبتدأ خبره أولئك {فاحِشَةً} فعلة متزايدة القبح {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} أو أذنبوا أي ذنب كان مما يؤاخذون به. وقيل: الفاحشة الزنا. وظلم النفس ما دونه من القبلة واللمسة ونحوهما. وقيل: الفاحشة الكبيرة. وظلم النفس الصغيرة {ذَكَرُوا الله} تذكروا عقابه أو وعيده أو نهيه، أو حقه العظيم وجلاله الموجب للخشية والحياء منه {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} فتابوا عنها لقبحها نادمين عازمين {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله} وصف لذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة وإنّ التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه، وأنّ عدله يوجب المغفرة للتائب، لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو والتجاوز وفيه تطييب لنفوس العباد، وتنشيط للتوبة، وبعث عليها وردع عن اليأس والقنوط وأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم. والمعنى: أنه وحده معه مصححات المغفرة.وهذه جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه {وَلَمْ يُصِرُّوا} ولم يقيموا على قبيح فعلهم غير مستغفرين.وعن النبي صلى الله عليه وسلم «ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرّة» وروى «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار».{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حال من فعل الإصرار وحرف النفي منصب عليهما معًا. والمعنى: وليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهى عنها وبالوعيد عليها، لأنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح. وفي هذه الآيات بيان قاطع أنّ الذين آمنوا على ثلاث طبقات متقون وتائبون ومصرّون، وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم، دون المصرّين. ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه. قال أَجْرُ الْعامِلِينَ بعد قوله: {جَزاؤُهُمْ} لأنهما في معنى واحد. وإنما خالف بين اللفظين لزيادة التنبيه على أنّ ذلك جزاء واجب على عمل، وأجر مستحق عليه، لا كما يقول المبطلون.وروى أنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى موسى: «ما أقلّ حياء من يطمع في جنتي بغير عمل، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي» وعن شهر بن حوشب: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة.وعن الحسن رضى الله عنه: يقول الله تعالى يوم القيامة «جوزوا الصراط بعفوي، وادخلوا الجنة برحمتي، واقتسموها بأعمالكم» وعن رابعة البصرية رضى الله عنها أنها كانت تنشد:
والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: ونعم أجر العاملين ذلك. يعنى المغفرة والجنات قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ يريد ما سنه الله في الأمم المكذبين من وقائعه، كقوله: {وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} {ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا}، {سُنَّةَ الله الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ}.
ومن أمثال العرب: الحرب سجال.وعن أبى سفيان أنه صعد الجبل يوم أحد فمكث ساعة ثم قال: أين ابن أبى كبشة، أين ابن أبى قحافة، أين ابن الخطاب. فقال عمر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو بكر، وها أنا عمر. فقال أبو سفيان يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال. فقال عمر رضى الله عنه: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار. فقال: إنكم تزعمون ذلك فقد خبنا إذن وخسرنا، والمداولة مثل المعاورة. وقال: يقال: داولت بينهم الشيء فتداولوه.{وَلِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ آمَنُوا} فيه وجهان:أحدهما أن يكون المعلل محذوفا معناه: وليتميز الثابتون على الإيمان منكم من الذين على حرف، فعلنا ذلك وهو من باب التمثيل. بمعنى: فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت، وإلا فالله عز وجل لم يزل عالما بالأشياء قبل كونها. وقيل: معناه وليعلمهم علمًا يتعلق به الجزاء، وهو أن يعلمهم موجودًا منهم الثبات، والثاني أن تكون العلة محذوفة، وهذا عطف عليه، معناه: وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت وليعلم الله. وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة، ليسليهم عما جرى عليهم، وليبصرهم أن العبد يسوءه ما يجرى عليه من المصائب، ولا يشعر أنّ للَّه في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه.{وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ} وليكرم ناسا منكم بالشهادة، يريد المستشهدين يوم أحد. أو وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما يبتلى به صبركم من الشدائد، من قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ}.{وَالله لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} اعتراض بين بعض التعليل وبعض. ومعناه: والله لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان، المجاهدين في سبيل الله، الممحصين من الذنوب. والتمحيص: التطهير والتصفية {وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ} ويهلكهم. يعنى: إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والاستشهاد والتمحيص، وغير ذلك مما هو أصلح لهم. وإن كانت على الكافرين، فلمحقهم ومحو آثارهم.
لما رمى عبد الله بن قمئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه، أقبل يريد قتله فذب عنه صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد، حتى قتله ابن قمئة وهو يرى أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قد قتلت محمدًا.وصرخ صارخ: ألا إن محمدًا قد قتل. وقيل: كان الصارخ الشيطان، ففشا في الناس خبر قتله فانكفؤا، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: «إلىّ عباد الله» حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم على هربهم، فقالوا: يا رسول الله- فديناك بآبائنا وأمهاتنا- أتانا خبر قتلك فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين. فنزلت.وروى أنه لما صرخ الصارخ قال بعض المسلمين: ليت عبد الله بن أبىّ يأخذ لنا أمانا من أبى سفيان. وقال ناس من المنافقين: لو كان نبيا لما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم. فقال أنس بن النضر- عم أنس بن مالك-: يا قوم، إن كان قتل محمد فإن رب محمد حىٌّ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه. ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل.وعن بعض المهاجرين: أنه مرّ بأنصارى يتشحط في دمه، فقال يا فلان، أشعرت أن محمدًا قد قتل، فقال: إن كان قتل فقد بلغ، قاتلوا على دينكم. والمعنى {وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} فسيخلو كما خلوا، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه، لأن الغرض من بعثة الرسل تبليغ الرسالة وإلزام الحجة، لا وجوده بين أظهر قومه أَفَإِنْ ماتَ الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قبلها على معنى التسبيب، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سببا لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل، مع علمهم أنّ خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به يجب أن يجعل سببا للتمسك بدين محمد صلى الله عليه وسلم، لا للانقلاب عنه. فإن قلت: لم ذكر القتل وقد علم أنه لا يقتل؟ قلت: لكونه مجوّزا عند المخاطبين. فإن قلت: أما علموه من ناحية قوله: {وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}؟ قلت: هذا مما يختص بالعلماء منهم وذوى البصيرة. ألا ترى أنهم سمعوا بخبر قتله فهربوا، على أنه يحتمل العصمة من فتنة الناس وإذ لا لهم. والانقلاب على الأعقاب: الإدبار عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم به من أمر الجهاد وغيره. وقيل: الارتداد. وما ارتد أحد من المسلمين ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين. ويجوز أن يكون على وجه التغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإسلامه.{فَلَنْ يَضُرَّ الله شَيْئًا} فما ضر إلا نفسه، لأن الله تعالى لا يجوز عليه المضارّ والمنافع {وَسَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ} الذي لم ينقلبوا كأنس بن النضر وأضرابه. وسماهم شاكرين، لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا.المعنى: أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة الله، فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن الله له فيه تمثيلا، ولأن ملك الموت هو الموكل بذلك، فليس له أن يقبض نفسًا إلا بإذن من الله. وهو على معنيين: أحدهما تحريضهم على الجهاد وتشجيعهم على لقاء العدوّ بإعلامهم أن الحذر لا ينفع، وأن أحدًا لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خوّض المهالك واقتحم المعارك.والثاني ذكر ما صنع الله برسوله عند غلبة العدوّ والتفافهم عليه وإسلام قومه له، نهزة للمختلس من الحفظ والكلاءة وتأخير الأجل.
|